فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والكاف في {كما أمرت} لتشبيه معنى المماثلة، أي دعوة واستقامة مثل الذي أمرت به، أي على وفاقه، أي وافية بما أمرت به.
وهذه الكاف مما يسمى كاف التعليل كقوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198]، وليس التعليل من معاني الكاف في التحقيق ولكنه حاصلُ معنًى يعرض في استعمال الكاف إذا أريد تشبيه عاملها بمدخولها على معنى المطابقة والموافقة.
والاتِّباع يطلق مجازًا على المجاراة والموافقة، وعلى المحاكاة والمماثلة في العمل، والمراد هنا كِلا الإطلاقين ليرجع النهي إلى النهي عن مخالفة الأمرين المأمور بهما في قوله: {فادع واستقم}.
وضمير {أهواءهم} للذين ذكروا من قبل من المشركين والذين أوتوا الكتاب، والمقصود: نهي المسلمين عن ذلك من باب {لَئن أشركتَ ليحبَطَنَّ عَمَلُك} [الزمر: 65] ألا ترى إلى قوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك}.
في سورة هود (112).
ويجوز أن يكون معنى {ولاَ تتبع أهواءهم} لا تجارِهم في معاملتهم، أي لا يحملك طعنهم في دعوتك على عدم ذكر فضائل رُسلهم وهدي كتبهم عدا ما بدَّلوه منها فأعْلِن بأنك مؤمن بكتبهم، ولذلك عطف على قوله: {ولا تتبع أهواءهم} قوله: {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} الآية، فموقع واو العطف فيه بمنزلة موقع فاء التفريع.
ويكون المعنى كقوله تعالى: {ولا يَجْرِمنَّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} في سورة المائدة (8).
والأهواء: جمع هوى وهو المحبة، وغلب على محبة ما لاَ نفع فيه، أي ادعهم إلى الحق وإن كرهوه، واستقم أنت ومن معك وإن عادَاكم أهل الكتاب فهم يحبون أن تتبعوا ملتهم، وهذا من معنى قوله: {ولن ترضَى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قُل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120].
وقوله: {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} بعد قوله: {فادع} أمرٌ بمخالفة اليهود إذ قالوا: {نؤمن ببعضٍ} [النساء: 150] يعنون التوراة، {ونكفر ببعضٍ} [النساء: 150] يعنون الإنجيل والقرآن، فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالإيمان بالكتب الثلاثة الموحى بها من الله كما قال تعالى: {وتؤمنون بالكتاب كلّه} [آل عمران: 119].
فالمعنى: وقل لمن يهمه هذا القول وهم اليهود.
وإنما أمر بأن يقول ذلك إعلانًا به وإبلاغًا لأسماع اليهود، فلا يقابِل إنكارَهم حقّيَّةَ كتابه بإنكاره حقّيّةَ كتابهم وفي هذا إظهار لِما تشتمل عليه دعوته من الإنصاف.
و{من كتاب} بيان لما أنزل الله، فالتنكير في {كتاب} للنوعية، أي بأي كتاب أنزله الله وليس يومئذٍ كتاب معروف غير التوراة والإنجيل والقرآن.
وضمير {بينكم} خِطاب للذين أمر بأن يُوجه هذا القول إليهم وهم اليهود، أي أمرت أن أقيم بينَكم العدل بأن أدعوكم إلى الحق ولا أظلمكم لأجل عداواتكم ولكني أنفذ أمر الله فيكم ولا أنتمي إلى اليهود ولا إلى النصارى.
ومعنى {بينكم} أنني أقيم العدل بينكم فلا ترون بينكم جورًا مني، ف (بين) هنا ظرف متحد غير موزَّع فهو بمعنى وسَط الجَمع وخلالَه، بخلاف (بين) في قول القائل: قضَى بين الخصمين أو قسم المال بين العفاة.
فليس المعنى: لأعدل بين فرقكم إذ لا يقتضيه السياق.
وفي هذه الآية مع كونها نازلة في مكة في زمن ضعف المسلمين إعجاز بالغيب يدل على أن الرّسول صلى الله عليه وسلم سيكون له الحكم على يهود بلاد العرب مثل أهل خيبر وتيماء وقريظة والنضِير وبني قَيْنُقَاع، وقد عَدَل فيهم وأقرهم على أمرهم حتى ظاهروا عليه الأحزاب كما تقدم في سورة الأحزاب.
واللام في قوله: {لأعدل} لامٌ يكثر وقوعها بعد أفعال مادتَيْ الأمر والإرَادة، نحو قوله تعالى: {يُريد الله ليبيّنَ لكم} [النساء: 26]، وتقدم الكلام عليها وبعضهم يجعلها زائدة.
وجملة {الله ربنا وربكم} من المأمور بأن يقوله.
فهي كلها جملة مستأنفة عن جُملة {آمنت بما أنزل الله من كتاب} مقررةٌ لمضمونها لأن المقصود من جملة {الله ربنا وربكم} بِحذَافِرها هو قوله: {لا حجة بيننا وبينكم} فهي مقررة لمضمون {آمنت بما أنزل الله من كتاب}، وإنما ابتدئت بجملتي {الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} تمهيدًا للغرض المقصود وهو لا حجة بيننا وبينكم، فلذلك كانت الجمل كلّها مفصولة عن جملة {آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم}.
والمقصود من قوله: {الله ربنا وربكم} أننا متفقون على توحيد الله تعالى كقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا} [آل عمران: 64] الآية، أي فالله الشهيد علينا وعليكم إذ كذبتم كتابًا أنزل من عنده، فالخبر مستعمل في التسجيل والإلزام.
وجملة {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} دعوةُ إنصاف، أي أن الله يجازي كُلًا بعمله.
وهذا خبر مستعمل في التهديد والتنبيه على الخطأ.
وجملة {لا حجة بيننا وبينكم} هي الغرض المقصود بعد قوله: {وأُمرت لأعدل بينكم} أي أعدل بينكم ولا أخاصمكم على إنكاركم صدقي.
والحجة: الدليل الذي يدلّ المسوق إليه على صدق دعوى القائم به وإنما تكون الحجة بين مختلِفين في دعوى.
ونفيُ الحجة نفي جنس يجوز أن يكون كناية عن نفي المجادلة التي من شأنها وقوع الاحتجاج كناية عن عدم التصدّي لخصومتهم فيكون المعنى الإمساكُ عن مجادلتهم لأن الحق ظهر وهم مكابرون فيه وهذا تعريض بأن الجدال معهم ليس بذي جدوَى.
ويجوز أن يكون المنفي جنسَ الحجة المفيدةِ، بمعونة القرينة مثل: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
والمعنى: أن الاستمرار على الاحتجاج عليهم بعد ما أظهر لهم من الأدلة يكون من العبث، وهذا تعريض بأنهم مُكَابرون.
وأيًّا مّا كان فليس هذا النفي مستعملًا في النهي عن التصدّي للاحتجاج عليهم فقد حاجّهم القرآن في آيات كثيرة نزلت بعدَ هذه وحاجّهم النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الرجم وقد قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] فالاستثناء صريح في مشروعية مجادلتهم.
و(بين) المكررة في قوله: {بيننا وبينكم} ظرف موزع على جماعاتتِ أو أفرادِ ضمير المتكلم المشارَككِ.
وضمير المخاطبين، كما يقال: قَسم بينهم، وهذا مخالف ل (بين) المتقدم آنفًا.
والمراد بالجمع في قوله: {الله يجمع بيننا} الحشر لفصل القضاء، فيومئذٍ يتبين المحق من المبطل، وهذا كلام منصف.
ولما كان مثل هذا الكلام لا يصدر إلا من الواثق بحقه كان خطابُهم به مستعملًا في المتاركة والمحاجزة، أي سأترك جدالكم ومحاجّتكم لقلة جدواها فيكم وأفوض أمري إلى الله يقضي بيننا يوم يجمعنا، فهذا تعريض بأن القضاء سيكون له عليهم.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {الله يجمع بيننا} للتقوّي، أي تحقيق وقوع هذا الجمع وإلا فإن المخاطبين وهم اليهود يثبتون البعث.
و(بَين) هنا ظرف موزَّع مثلُ الذي في قوله: {لا حجة بيننا وبينكم}.
وجملة {وإليه المصير} عطف على جملة {يجمع بيننا}.
والتعريف في {المصير} للاستغراق، أي مصير النّاس كلّهم، فبذلك كانت الجملة تذييلًا بما فيها من العموم، أي مصيرنا ومصيركم ومصير الخلق كلهم.
وهذه الجمل الأربع تقتضي المحاجزة بين المؤمنين وبين اليهود وهي محاجزة في المقاولة ومتاركة في المقاتلة في ذلك الوقت حتى أذن الله في قتالهم لما ظاهروا الأحزاب.
وليس في صيغ هذه الجمل ما يقتضي دوام المتاركة إذ ليس فيها ما يقتضي عموم الأزمنة فليس الأمر بقتال بعضهم بعد يوم الأحزاب ناسخًا لهذه الآية.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}.
عطف على جملة {وقل آمنت بما أنزل الله} [الشورى: 15] الخ، وهو يقتضي انتقال الكلام، فلما استوفى حظ أهل الكتاب في شأن المحاجّة معهم، رجع إلى المشركين في هذا الشأن بقوله: {والذين يحاجون في الله}.
وتغيير الأسلوب بالإتيان بالاسم الظاهر الموصول وكوننِ صلته مادة الاحتجاج مؤذن بتغيير الغرض في المتحدث عنهم مع مناسبة ما ألحق به من قوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18] وقوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]، فالمقصود ب {الذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له}: المشركون لأنهم يحاجّون في شأن الله وهو الوحدانية دون اليهود من أهل الكتاب فإنهم لا يحاجّون في تفرد الله بالإلهاية.
وعن مجاهد أنه قال: {الذين يحاجون في الله} رجال طمعوا أن تعود الجاهلية بعد ما دَخل الناس في الإسلام.
ووقع في كلام ابن عباس عند الطبري: أنّهم اليهود والنصارى.
فمعنى محاجتهم في الله محاجتهم في دين الله، أي إدخالهم على النّاس الشك في صحّة دين الإسلام أو في كونه أفضل من اليهودية والنصرانية.
ومحاجتهم هي ما يُلبسوه به على المسلمين لإدخال الشك عليهم في اتّباع الإسلام كقول المشركين {ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملَك فيكون معه نذيرًا} [الفرقان: 7] وقولهم في الأصنام {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقولهم في إنكار البعث {أإِذَا مِتْنا وكنا ترابًا ذلك رَجعٌ بعيدٌ} [ق: 3] وقولهم: {إنْ نتبععِ الهُدى معَك نُتَخَطَّف من أرضنا} [القصص: 57]، وكقول أهل الكتاب: نحن الذين على دين إبراهيم، وقولهم: كتابنا أسبق من كتاب المسلمين.
وإطلاق اسم الحجة على شبُهاتهم مجاراة لهم بطريق التهكم، والقرينةُ قوله: {داحضة عند ربهم}.
ومفعول {يحاجون} محذوف دلّ عليه قوله: {من بعد ما استجيب له}، والتقدير: يحاجون المستجيبين لله من بعد ما استجابوا له، أي استجابوا لدعوته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وحذف فاعل {استجيب} إيجازًا لأن المقصود من بعد حصول الاستجابة المعروفة.
والداحضة: التي دَحَضت بفتح الحاء، يقال: دَحَضت رِجلُه تدحض (بفتح الحاء) دُحوضًا، أي زلت.
استعير الدحض للبطلان بجامع عدم الثبوت كما لا تثبت القدَم في المكان الدَّحْضضِ، ولم يبيَّن وجه دحضها اكتفاء بما بُيِّن في تضاعيف ما نَزل من القرآن من الأدلة على فساد تعدد الآلهة، وعلى صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم وعلى إمكان البعث، وبما ظهر للعيان من تزايد المسلمين يومًا فيومًا، وأمنهم من أن يُعتدى عليهم.
والغَضب: غضب الله، وإنما نكّر للدلالة على شدته.
ولم يُحْتَجْ إلى إضافته إلى اسم الجلالة أو ضميره لظهور المقصود من قوله: {حجتهم داحضة عند ربهم} فالتقدير: وعليهم غضب منه.
وإنما قدم المسند على المسند إليه بقوله: {وعليهم غضب} للاهتمام بوقوع الغضب عليهم كما هو مقتضى حرف الاستعلاء المَجازي.
وكذلك القول في {ولهم عذاب شديد}.
ولعل المراد به عذاب السيف في الدّنيا بالقتل يوم بدر. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الحجة:
وهى اسم مضعَّف على زنة (فُعْلة، لبرهان) أَهل الحقِّ والدّلالة البيّنة للمحجَّة أي المقصد المستقيم الذي يقتضى صحّة أَحد النقيضين.
وقد وردت الحجّة في القرآن بمعنى المنافرة والمخاصمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} {ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} {هاأَنْتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ}.
وورد بمعنى البرهان تارة من المؤمنين مع الكفَّار {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} وتارة من الكفَّار بحسب اعتقادهم الباطل {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قالواْ ائْتُواْ بِآبَائِنَا} وتارة من إِبراهيم عليه السّلام في تمهيد قواعد الإِيمان {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وتارة من الحقّ إِلى الخلق بآيات القرآن وإِظهار البرهان {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} و{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} جعل ما يَحتجّ بها الَّذين ظلموا مستثنًى من الحجّة وإِن لم يكن حجّة، كذلك قول الشاعر:
ولا عَيبَ فيهم غيرَ أَنَّ سيوفَهُمْ ** بهنّ فُلُولٌ من قراع الكتائبِ

ويجوز أَنَّه سمّى ما يحتجّون به حجّة كقوله: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} فسمّى الداحضة حجّة، والمحاجّة: أَن يطلب كلُّ واحد أَن يردّ الآخر عن حجّته ومحجّتِه.
وأَصل الحجّ القصد للزِّيارة.
وخُصّ في تعارف الشَّرع بقصد بيت الله إِقامة للنُّسُك.
فقيل الحَجّ والحِجّ، فالحَج مصدر والحِجّ اسم.
ويوم الحَجّ الأَكبر يومُ النحر أَو يوم عرفة.
وورى: «العُمْرة الحجّ الأَصغر» وقيل غير ذلك.
وفى الحديث «من مات ولم يحجّ حجّة الإِسلام لقى الله وفيه شُعبة من النِّفاق» وفيه «الحَجّ المبرور ليس له جَزَاء إِلاَّ الجنَّة» قال:
إِذا حَجَجْتَ بمالٍ أَصلُه دنسٌ ** فما حججتَ ولكنْ حجَّتِ العيرُ

لا يقبل الله إِلا كلَّ صافية ** ما كلّ مَن حجّ بيتَ الله مبرور

اهـ.

.تفسير الآيات (17- 20):